الأربعاء، 16 ديسمبر 2009

زكية داوود حاملة قلم تمردت على الوضع القائم







في زمن كانت الحياة مملة والأفق مغلق برز اسم زكية داوود كرمز للصحافة منذ حصولها على الجنسية المغربية بالصدفة. تحولت إلى مواطنة مغربية تلتزم بالواجبات، وتناضل من أجل حقوق، كانت تفتقر إليها بلادنا في مرحلة ستينيات القرن الماضي، انخرطت في "معركة القلم"، اعتبرها القائمون على الأمور متمردة على الوضع القائم، فخطط إدريس البصري لإعدام المنبر الذي تدبره، مجلة "لاماليف"، بجميع الوسائل لوضع حد لمشروع الإعداد لغد أفضل، بلورته رفقة ثلة من المفكرين والمثقفين والكتاب والصحفيين.
أدارت زكية داوود مجلة "لا" جوابا على كل ما لم يكن يستجيب لانتظارات المغاربة في مختلف المجالات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في وقت كان الصراع على السلطة في أوجه.


أصبحت مغربية بالصدفة

ولدت باسم "حاكلين ديفيد" سنة 1937 في بلدة تسمى "بيرناي" قرب "نورماندي" بالديار الفرنسية، حيث ظل القائمون على المغرب، سيما وزارة الداخلية، يستخدمون تمتيعها بالجنسية المغربية، التي لم تطلبها، لتضييق الخناق عليها وإخراسها نهائيا كصحفية وصاحبة قلم ملتزم.
حولت اسمها إلى زكية داوود سنة 1963، لتصبح واحدة من أكثر الشخصيات رمزية في الصحافة المغربية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
تقول زكية داوود بخصوص اسمها: "هذا الاسم (زكية داوود) في الواقع هو الترجمة الحرفية لاسمي الحقيقي "جاكلين ديفيد"، كنت وصلت إلى المغرب عام 1958، وبعد ذلك بعام واحد حصلت على الجنسية. وبالتدريج تحولت جاكلين إلى زكية، والحقيقة أنني اخترت هذا الاسم المستعار بناء على طلب مدير مجلة "جون أفريك" حين كنت أعمل كمراسلة لها في الفترة بين 1963 إلى 1966، وكان قد أمهلني خمس دقائق فقط كي أختار الاسم".
حسب المقربين، حصلت زكية داوود على الجنسية المغربية بالصدفة سنة 1959 بمعية زوجها محمد لغلام، المنحدر من أب جزائري وأم مغربية دون أن تطلبها.


إعدام مجلة "لا"

إن السمعة التي تمتعت بها الصحفية والكاتبة، زكية داوود ـ العصامية والتي تركت المدرسة في سن 16 من عمرها ـ ترجع إلى مجلة "لاماليف" الصادرة باللغة الفرنسية, والتي أسستها رفقة زوجها لغلام، والممتد صدورها على مدى 22 سنة، لم تتوقف عن اكتساب المزيد من الانتشار، علما أن نجاحها شكل تهديدا واضحا في نظر الدوائر العليا، وهذا هو السبب الذي أدى إلى توقيفها عن الصدور في مرحلة أوجها.
يتكون اسم المجلة من حرفين عربيين يشكلان كلمة "لا" التي كانت تخيف المخزن والموالين له على امتداد سنوات الجمر والرصاص، حين كان مجرد الحديث عن السياسة من شأنه أن يقذف المرء في غياهب المعتقلات السرية، في أي وقت وحين.
كان محمد لغلام، زوج زكية داوود، صاحب الفكرة الذكية، تسمية المجلة بـ "لا"، كوسيلة مستترة للتعبير عن الانتماء إلى المعارضة واعتماد خط تحريري، مفاده أن كل شيء لابد وأن يكون محل تساؤل.
بدأت مجلة "لا" بطبع ثلاثة آلاف نسخة، وباقتراب "إعدامها" وصلت إلى توزيع 12 ألف نسخة، علما أن كل نسخة كان يقرأها عشرة أفراد على الأقل، وبذلك كانت "لاماليف" تتوفر على قاعدة قراء لا تقل عن 120 ألف. في البداية كان سعرها درهمين، وحين زاد عدد الصفحات من 46 إلى 90 أضحى سعرها سبعة دراهم، آنذاك كان عدد كبير من قرائها شبابا يعيشون على دخول بسيطة ويتداولون النسخة الواحدة فيما بينهم.
أدارت زكية داوود، رفقة زوجها المجلة من 1966 إلى 1988، وكانت تتبنى موقفا سياسيا غير معلن، وتهتم بقضايا اجتماعية، ثقافية واقتصادية، إلا أن اهتمامها الجوهري انصب على القضايا السياسية المصيرية، علما أن "لاماليف" نشطت في مرحلة كان خلالها معارضو البلاد لم يسلموا بعد زمام الأمور، آنذاك كان المغرب عبارة عن مسرح لنشاط ثقافي وسجال إيديولوجي على قدر عظيم من الأهمية.
وقتئذ ظهر أغلب الفنانين المغاربة الكبار وبرز الكتاب والشعراء والرسامون والمفكرون والنقاد..
لقد حملت مجلة "لا" مشروعا التفت حوله نخبة من المفكرين والمبدعين والصحافيين والفنانين، أقلق القصر الملكي والمحيطين به، وكان اسم المجلة ـ لاماليف أي "لا" ـ يرمز إلى رفض كل ما يناهض انتظارات الشعب وقواه الحية ولا يساهم في حل معضلات البلاد للسماح لها من التحرر الفعلي.
على امتداد صدور مجلة "لا" ظل القائمون على أمور المغرب يشمئزون من كل ما تنشره، حتى من الرسوم الكاريكاتورية. "إن عدم قبول هذا النوع من الإبداع (الرسوم الكاريكاتورية) ليس وليد اليوم كما قد يعتقد البعض، فـ "لاماليف" عانت كثيرا من هذا الأمر منذ الستينيات حتى الثمانينيات، إذ كانت الكثير من أغلفتها تشتمل على رسوم موقعة من طرف فنانين مغاربة وأجانب مثل "جين جورملين" الفرنسية، وقد كانت هذه الأغلفة سببا في منع بعض أعداد المجلة من التوزيع.
بدأ الهجوم على "لاماليف" عندما شرعت في الظهور كعنصر نشاز في المشهد العام، سيما عندما تألقت في مواكبة أهم النقاشات حول القضايا الجوهرية التي ستصبح فيما بعد سياسات فاشلة، من قبيل إصلاح التعليم وإشكالية اللغة والهوية والإسلام السياسي والتعامل مع الدين والمسألة الاقتصادية والخلافات مع الجزائر وسيطرة المخزن على دواليب صناعة القرار وإنتاج القوانين.
تؤكد زكية داوود أن وزير الداخلية المخلوع، إدريس البصري، هددها أكثر من مرة منذ أن شعر أن مجلة "لا" أضحت تبيع نسخا أكثر مما ينبغي. وقد استعمل معها جميع الأساليب الخسيسة، ليلفّق لها تهمة إهانة الملك، فقد ظل يبحث عن أي عذر لإعدام المجلة، إلا أن زكية داوود تقر قائلة: "الحقيقة أننا توقفنا لأننا كنا أصبحنا أهم مما ينبغي في نظرهم".
في واقع الأمر، وبخصوص التفسير السياسي، لم يكن في وسع "لاماليف" والقائمين عليها الاستمرار، حيث تمكنت وزارة الداخلية من استقطاب أو "اختطاف" عدد كبير من المساهمين فيها، لقد تمكن المخزن من جلب كتابها، بعضهم أصبح وزيرا وبعضهم مفكرا مسموعا والباقي انزوى وتوارى عن الأنظار، آنذاك كانت ساعة تاريخ المغرب المعاصر تشير إلى لحظة أوج سنوات الجمر والرصاص، سنوات الرصاص الثقافي.
آنذاك عمل إدريس البصري على إصدار أوامره المستجابة لمحاصرة الكتاب والمفكرين بعد أن اعترى القلق البين الأحزاب السياسية والصحف التابعة لها. كما بدأت فترة اختطاف الكتاب والمثقفين إعلانا عن ضياع الحرية والفكر.
في تلك الفترة كانت السلطة تدفع المثقفين الشباب دفعا إلى تجاوز "الخطوط الحمراء" لتنقلب عليهم فجأة ودون سابق إنذار.
في البداية كان وزير الداخلية، إدريس البصري، يرغب في الحد من انتشار مجلة "لا"، سيما حينما توسعت دوائر انتشارها إلى ما يزيد عن 12 ألف مقتني وأكثر من 120 ألف مطلع. وقتئذ قال الوزير لزكية داوود: "هذا أكثر مما ينبغي"، ونصحها بتقليص الطبع إلى 1000 نسخة فقط.
ظل إدريس البصري يحاصرها أملا في تحويل طاقم "لاماليف" إلى كلاب وديعة، مما أدى إلى توقيفها.
أشار الصحفي إدريس كسيكس إلى أنه دار حينها، في الكواليس، وتحديدا في ملعب كولف دار السلام حوار بين الملك الراحل الحسن الثاني وإدريس البصري وأحد الوزراء، حول فرضية وجود مؤامرة تدعمها الجزائر داخل هيأة تحرير مجلة "لاماليف"، وقتئذ كان الراحل نادر يعتة يكتب مقالات تتناول ضرورة بناء المغرب العربي وتجاوز خلافات الجارين (المغرب والجزائر)، ومحمد الطوزي يحلل هيمنة المخزن الخانقة في مختلف مجالات الحياة بالبلاد من المهد إلى القبر.
توقفت مجلة "لا" عند عددها المائتين (200)، وقد ضم شهادات مجموعة من المبدعين والمفكرين والكتاب الذين أكدوا افتخارهم بالانتماء لها.
وقد تزامن صدور عددها الأخير ـ قبل الإعدام ـ مع تناسل فرضية مؤامرة هيأة تحريرها مع الجزائر، في سنة 1988، حيث قال إدريس البصري لزكية داوود بصريح العبارة إن عليها أن لا تكتب على المخزن، لذلك قررت بمعية هيأة التحرير توقيف مجلة "لا"، تعبيرا عن رفض ما طلب منها.

مشوار زكية داوود

أمضت أولى مقالاتها بمجلة "جون أفريك" سنة 1963 تحت الاسم المستعار، زكية داوود، الذي أصبح مكونا أساسيا لهويتها.
اشتغلت لفترة قصيرة بالدار البيضاء، قبل انتقالها للعمل بالرباط في الإذاعة الوطنية بجانب زوجها محمد لغلام الموظف بوزارة الإعلام آنذاك.
عملت فترة من حياتها مراسلة لشبكة "رويترز" في المغرب، وألفت بعض المؤلفات منها كتاب عن المجاهد عبد الكريم الخطابي.
تقول زكية داوود عن مشوارها الوظيفي: "اخترت مهنة أخاذة، زاولتها بكل شغف وحب، وتعرفت على أناس متميزين، أو هكذا بدوا لي في لحظة أو أخرى من حياتي [..] وحاولت أن أجد لنفسي مكانة في المهنة".
قبل التألق عملت زكية بجريدة الطبقة العاملة "الطليعة" التابعة للاتحاد المغربي للشغل التي غادرتها سنة 1963، وأوقفت التعامل مع مجلة "جون أفريك" سنة 1965، اعتبارا للأخطار التي أضحت تحوم حولها جراء مقالاتها.
إدريس ولد القابلة
أسبوعية المشعل المغربية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق