السبت، 2 يناير 2010

محمد اليازغي الذي يهوى الابتسامة في حضرة الأميرة لالة حسناء






محمد اليازغي وزير البيئة الاشتراكي
الذي يهوى الابتسامة في حضرة الأميرة لالة حسناء


قد يعتبر حياته مجرد هبة حباه الله بها، خصوصا أنه الوزير الوحيد في المغرب الذي عاش تجربة الموت، إن لم نقل ذاق سكراتها، ليعود منها محملا بألبومات من الصور الغريبة لعالم الأموات الذي وقف على مشارفه، بعدما سعى إلى تحقيق أحلامه "الوردية" في مغرب السبعينيات، فبعد إعدام العقيد أمقران ومن معه ليلة عيد الأضحى سنة 1973 بأولاد برجال (ناحية القنيطرة) في قضية ما سمي بـ "الطائرة الملكية"، تلقى محمد اليازغي رسالة ملغومة في مدينة الرباط، قيل إنها كانت مجهولة الهوية، إلا أن اليازغي (38 سنة) الذي كان مفعما بحب الاكتشاف والمغامرات ، أصر على فتحها والإطلاع على ما بداخلها، من يدري فقد تحمل أخبارا عن الرفاق الذين تطاردهم آلة المخزن آنذاك، لكن ما إن فتحها حتى أنفجر الطرد الملغوم بين يديه ليجد نفسه وسط بركة من الدماء، آنذاك استنفر الأطباء كل قواهم لإنقاذ محمد من موت محقق، قيل إن العملية الجراحية استمرت عدة ساعات لترتيب أحشائه وبعض أطرافه، وبالرغم من كونه يعيش فترة نقاهة، لم يشفع له خضوعه للعلاج في الأشهر الموالية، إذ اعتقل في يونيو من نفس السنة ليجد نفسه واقفا في قفص الاتهام بعدما قدم للمحاكمة أمام المحكمة العسكرية بالقنيطرة، ومن بوابة السجن اقتيد إلى مدينة إفران حيث طبقت في حقه الإقامة الجبرية إلى أن أطلق صراحه سنة 1974.

ولد محمد اليازغي الذي قدر له أن يعيش مرة ثانية في 28 شتنبر 1935 بمدينة فاس، المعلومات التي تحدثت عن طفولته قليلة جدا، إلا أن ما عرف عنه هو أنه درس الابتدائي بمسقط رأسه، وكان مميزا بين أقرانه مما جعله يحصل على الشهادة الابتدائية بامتياز، وهنا شاءت الظروف أن يحمل الطفل محمد حقائبه وكتبه ليغادر فاس، نحو مدينة يختلف ماؤها وبيئتها وكذا ترابها عن جغرافية فاس التي جرى بين أزقتها الضيقة، وعارك أقرانه في ساحاتها العتيقة، لتكون وجهته إعدادية مولاي يوسف بالرباط، التي فتحت له الباب على مصراعيه للولوج إلى ثانوية "كوطو" مباشرة بعد نفي الملك محمد الخامس بسنة، أخذ الحماس يتدفق في أوردة اليازغي لمعانقة المحتجين والصارخين ضد الاستعمار، فما أن وصل السادس عشرة من عمره حتى انخرط هذا الشاب في العمل السياسي، ليضم صوته إلى باقي الأصوات الصادحة في سماء المغرب آنذاك، وفي سنة 1954 انخرط في حزب الاستقلال إلى جانب قياديي الحركة الوطنية، وفي طليعتهم المهدي بنبركة الذي كان اليازغي معجبا به كثيرا، وكم حلم بأن يصبح مثله، لكن "كل إناء بما فيه ينضح" كما احتك بأبرز رموز الحركة التاريخيين، ولا سيما عبد الرحيم بوعبيد، وصف البعض رأسه بورشة تحمل في داخلها آلات ميكانيكية، بها مسننات تدور في سرعة خيالية، لذا فمحمد حسب البعض يحسب ألف حساب قبل أن يخطو خطوة واحدة، فبعد أن لاك الفكرة جيدا، وجدها فرصة مناسبة لتلميع اسمه، ليشارك دون تردد مع الزعماء في تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959، وعمره 24 سنة، جل الذين يعرفون اليازغي أجمعوا على أنه لا يدع الفرصة تفوته للرد على منتقديه، خصوصا أولئك الذين يعكرون صفاء مياهه ويلوثون بيئته المزينة بالورود الشائكة، لذا كان رد فعل اليازغي قويا، بعدما هاجمه إدريس البصري عبر "تصريحاته اللاذعة" بين صفحات الجرائد الدولية والمحلية، مشيرا إلى "رداءة اليازغي" ومتهما إياه بكون هذا الأخير قدم شيكا على بياض لإبقاء اليوسفي في مدينة "كان" الفرنسية مقابل حصوله على حقيبة وزارة الخارجية،وعلى منصب نائب للوزير الأول في حكومة التناوب عام 1994، التي كانت عبارة عن مشروع فقط لم يكتب له النجاح، والتي كان من المحتمل أن يرأسها الاستقلالي أمحمد بوسته، كما قيل إن اليازغي حاول جاهدا أن ينقل صراعه مع إدريس البصري إلى أجهزة الحزب ليبين أن الحزب هو المستهدف الأول من هذه الحملة العدائية، وأن الكاتب العام الجديد الذي خلف اليوسفي، هو المدافع عن القيم الاتحادية، حتى أن البعض نفى هذا الاعتقاد، مستدلا بأن إدريس البصري وصف حزب الاتحاد الاشتراكي بحزب الأمل والجماهير، وصرح قبيل الانتخابات التشريعية (1997) بأنه سيصوت لصالحه، مما دفع بعض المحليين إلى تشبيه العلاقة بين اليازغي والبصري بالصراع الكلاسيكي بين القط والفأر، خصوصا أن هذه العلاقة (اليازغي ـ البصري) كانت مشوبة بالتوتر في عدة محطات متفاوتة، أبرزها سنوات التسعينيات من القرن الماضي، بعدما فشلت المفاوضات بين القصر والكتلة حول إقامة حكومة التناوب الأولى بسبب رفض اليازغي الاشتغال إلى جانب الوزير القوي آنذاك إدريس البصري، ثم هناك محطة أخرى داخل حكومة التناوب التوافقي، حيث كان اليازغي يرمز لشخص البصري بجيوب مقاومة التغيير، إلا أن عدم مشاركة اليازغي في حفل التكريم الذي أقامه الوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي بمنزله لتوديع الوزير المخلوع، بين بالملموس العداء الدائم والتاريخي بين الطرفين، لكن ما لم يستسغه إدريس البصري هو تصريح الرجل الأول في الاتحاد الاشتراكي الذي أشار من خلاله إلى كون المخزن قد مات على خلفية إقالة إدريس البصري.

فرغم أن نظراته الثاقبة تنم عن رؤية واضحة إلى الأمام، إلا أنه يهوى تسريح شعره الذي اكتسحه البياض إلى الخلف، ويسعى كلما وجدها فرصة إلى الظهور بمظهر المناضل الذي يختزل تاريخ المغرب الحديث، أسمر البشرة فيما شفتاه البارزتان تميزان وجهه العريض الذي حفرت فيه التجاعيد أخاديدا عميقة، إلا أنه لا يزال يحمل داخله الطفل والشاب معا، فمحمد اليازغي الذي توج كاتبا أولا لحزب الاتحاد الاشتراكي بعدما قدم عبد الرحمان اليوسفي استقالته، هو أحد المؤسسين للقوات الشعبية، كما خاض معارك طاحنة من أجل الحفاظ على هويته وخياراته، وشارك في جميع مؤتمراته وعانق مناضليه بمختلف الفروع، حتى أن أحد الاتحاديين وصفه بالسندباد المغربي لكثرة تجواله، فلا توجد منطقة في المغرب لم تطأها قدمه، ولم يصدح فيها صوته.

فبعد حصوله على شهادة الباكلوريا من ثانوي"كوطو" انتقل إلى معقل شياطين الشعراء (باريس)، هناك تابع دراسته بالمدرسة الوطنية للإدارة، كما أنه حاصل على الإجازة في الحقوق من كلية الحقوق والعلوم الاقتصادية بالرباط، الأمر الذي جعله يمتهن المحاماة قبل أن يتقلد مهام رئيس مصلحة الميزانية والتجهيز بوزارة المالية، وفي سنة 1975 اقتحم اليازغي عالم الصحافة ليشغل منصب مدير يومية المحرر إلى حدود سنة 1981، لقد شغل عدة مسؤوليات إلى جانب مسؤولياته الحزبية، ومنها مهمة الكاتب العام للنقابة الوطنية للصحافة المغربية ما بين 1977 و 1993، ومدير يومية "ليبراسيون" الناطقة باللغة الفرنسية، فعكس جل الوزراء في حكومة التكنوقراطي إدريس جطو فاليازغي هو الوحيد الذي بطشت به يد المخزن القوية إبان حكم الراحل الحسن الثاني، فقد ذاق مرارة السجون، وتعرض للتعذيب والتنكيل في زنازن الموت الباردة واعتقل رفقة العديد من المناضلين، وزج به في السجن في الذكرى الأولى لاختطاف المهدي بنبركة، وعلى إثر هزيمة يونيو 1967 اعتقل اليازغي بتهمة التعبئة الشعبية، ليقضي سنة بالسجن دون محاكمة ثم قضى سنة أخرى (1970) بين سجني مراكش والرباط.

إلا أن شتنبر 1981 شكل منعطفا آخر في تاريخ قيادة الاتحاد الاشتراكي، إثر البيان الذي أصدره المكتب السياسي حول قضية الصحراء، الأمر الذي أزعج "المخزن" الذي سارع إلى اعتقال الكاتب الأول للحزب " عبد الرحيم بوعبيد" و "محمد الحبابي" وكذا " محمد اليازغي" ليحكم عليهم بالسجن سنة واحدة، قضوا نصفها بسجن ميسور قبل أن يتم إطلاق سراحهم.

أتباع اليازغي ومناصروه، يرون فيه رجل المواقف الحاسمة، فهو من منظورهم لا يخشى في الحق لومة لائم. جريء، صارم، ولا يدع الفرصة تفوته دون إبداء رأيه في أمور تتعلق بالوطن، فهم يحسبون له حسنة المصادقة على الميثاق الوطني لإعداد التراب الذي جاء بعدما شهد القطاع الذي أشرف عليه (وزارة إعداد التراب والسكن والتعمير والبيئة "حكومة 1998") حوارا وطنيا شاركت فيه عدة فعاليات سياسية ومدنية، غير أن للطرف الآخر وجهة نظر أخرى، فهم يرون أن مؤسسة الكاتب الأول للحزب في عهد اليازغي، لم تعد بالقوة التي كانت عليها في عهد عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان اليوسفي، فهو من زاويتهم برغماتي، فقد كان دائما طرفا رابحا في الصراع داخل البيت الاتحادي، الذي أفرز عدة تنظيمات يسارية (الوفاء للديمقراطية، الطليعة، المؤتمر الوطني الاتحادي...) كما اتهموه بالتضييق على اليوسفي بإنشائه لتيار مضاد شتت الحزب إلى نصفين، الأمر الذي جعل اليوسفي يتنازل عن منصب الكاتب العام بتقدميه الاستقالة، إلا أن للأصوليين كلمة ولا يخشون ترديدها لتصدح بها المسامع، لكن ما لم يكن يتوقعه اليازغي هو محاولة تنظيم أنصار المهدي اختطافه إلى جانب كل من فتح الله ولعلو ومحمد الكحص،وعمدة سلا.

لكن في مشهد ساخر، أصر محمد حصار والي جهة طنجة تطوان في صيف (2005) على السباحة رفقه عامل الإقليم وعمدة المدينة بشاطئ طنجة لتكذيب ما أوردته تقارير صادرة عن وزارة "اليازغي" التي صنفت شاطئ طنجة ضمن قائمة الشواطئ الملوثة بالمغرب.

وخلافا لما قيل فمحمد اليازغي الذي عينه الملك محمد السادس وزيرا لإعداد التراب الوطني والماء والبيئة، يظل رغم قامته القصيرة أحد الأعلام الشامخة في سماء المغرب الذي عرف كيف يحقق مشروعه البعيد المدى، فهو دائم الابتسامة خصوصا في حضرة الأميرة لالة حسناء التي تهتم بالبيئة والشواطئ النظيفة، كما أن هناك من يروج لإمكانية تربع اليازغي على عرش الوزارة الأولى خلفا لـ "مول الصباط"، إلا أن البعض يرى أن الوزارة الأولى لن تنفلت من يد التيكنوقراط

عن "المشعل"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق